حظيت النباتات وإنباتها وإخراجها من الأرض وإثمارها، بورودها في كثير من آيات القرآن الكريم.
واللافت للنظر أن ذكر إخراج النبت من الأرض جاء في جل الحالات في آيات مكيات كريمات. ولم يكن ذكر النباتات لمجرد تعداد نعم الله فحسب، إنما جاء في آيات ترتبط بعملية الخلق والإحياء والبعث والنشور، وفي آيات تحض الناس على التبصر والتأمل، والتعقل والتدبر، وفي آيات تبطل ما ينكره الكافرون من قدرة الله على الإحياء وخلق الحي من الميت، وبعث الناس من قبورهم بعد موتهم وهلاكهم.
والظاهرة اللافتة للنظر، والتي تستدعي التدبر والتأمل، هي اقتران نشأة الإنسان وبعثه في كثير من الآيات بنشأة النبات.
فكثير من الآيات القرآنية تؤكد الوحدة بين أصول الحياة على هذه الأرض، وأن عملية غنبات النبات ونموه، مثال للبعث بعد الموت والهلاك، فيقول الله تعالى وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39].
ويحفل القرآن الكريم بالآيات التي ترتبط بموضوع الخروج بمعنى البعث والإحياء وتزيد على الثلاثين آية في ثلاثة وعشرين سورة.
وترد فيها كلمة ( أخرج ) ومشتقاتها بهذا المعنى.
ومعظمها يربط بين إخراج النبات من الأرض ونموه، وبين البعث والخروج، وتؤكد أن إخراج الحي من الميت يرتبط بالنبات والإنسان.
وفي هذه الدراسة نستعرض الآيات الكريمات التي وردت فيها كلمة ( أخرج ) أو مشتقاتها فيما يتعلق بالنبات، والآيات التي تتحدث عن إحياء الأرض، وتلك التي تربط بين خروج النبات والبعث والإحياء، وخروج الحي من الميت والميت من الحي.
ونحاول أن نربط بين ما نعرفه من علوم النبات والبيئة وبين ما ورد في هذه الآيات الكريمات.
وفي هذا الصدد ينبغي أن نوضح أننا لسنا من المستشهدين على صحة كلام الله ـ تبارك وتعالى ـ بمعلوماتنا التي هي عرضة للنقص والخطأ، لكن تبصرنا في آيات الله، دفعنا لنفكر في آياته، وفي مخلوقاته في هذا الكون الفسيح وأن نفكر في الظاهرة التي يربط فيها القرآن بين خروج النبات من الأرض وإحياء الأرض والبعث والخروج، فهي مسألة جديرة بالتأمل والتدارس لما يكتنفها من إعجاز لا نستطيع إدراكه.
ونقوم بهذا التدارس مؤمنين بأن ما يقوم به العلم وما يصل إليه العلماء من معارف ما هو إ استجابة لأمر الله بالتبصر في خلقه، وأنهم ـ مهما توصلوا لمعرفة كثير من الظواهر ـ عاجزون لا محالة عن الوصول إلى سرها الذي لا يعلمه إلا الله.
أولاً: الآيات التي ذكرت فيها كلمة ( اخرج ) أو مشتقاتها فيما يتعلق بالنبات:
سنتعرض لتدارس الآيات الكريمات التي تتعلق بخروج النبات وما فيها من إعجاز، وقد جاءت في عشرة مواضع في القرآن الكريم على النحو التالي:
(الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ) [إبراهيم: 32].
(الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 22].
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)
) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ( [النبأ:14 ـ 16].
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ )[سورة الزمر]
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ {27} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )[سورة السجدة].
( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) [النازعات: 30 ـ 31].
( والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى) [الأعلى: 4 ـ5].
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى {53} كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ) [سورة طه:53].
(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لايَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 99].
تربط هذه الآيات الكريمات بين نزول الماء من السماء وبين إخراج النبات من الأرض.
إنها ظاهرة تتكرر كل يوم، ويعرفها كل إنسان، إلا أن دور الماء في إخراج النبات ونموه وعملياته الحيوية والفسيولوجية أمر لم يعرفه العلم إلا حديثاً.
ولسنا بصدد الحديث عن هذا الدور في هذا التمهيد، لأننا لن نتمكن من أن نوفيه حقه خشية تشعب موضوع دراساتنا الحالية، ولكنه ـ دون شك ـ موضوع جدير بالدراسة والتفكر.
وفيما سبق ذكره من آيات، يتحدث الخالق جل شأنه عن قدرته وأنه يخرج النبات من الأرض، وما إخراج النبات من الأرض إلا إحياء لها. والله يقول ـ عز من قائل ـ: ) وَآَيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) [يس: 33].
ثانياً: الآيات التي ذكر فيها الخروج بمعنى البعث والإحياء:
إن الخروج ـ ويعني البعث والنشور والإحياء ـ ورد في سبعة مواضع في القرآن الكريم، فيقول الله تعالى:
( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)[الروم: 25].
(وقال الذين كفروا أإذا كنا تراباً وآباؤنا أننا لمخرجون) [النمل: 67].
)أيعدكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون) [المؤمنون: 35].
( قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) [الأعراف: 25].
(منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [طه: 55].
ونلاحظ أن الآية الأخيرة جاءت بعد الآية التي ذكر الله فيها:
(فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى)
ويقول الله سبحانه وتعالى: )والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً)[نوح: 17 ـ 18].
ثالثاً: الآيات التي ربطت النبات والبعث والإحياء:
وقد وردت هذه الآيات في ثلاث سور من القرآن الكريم، وتربط بين إخراج النبات والبعث والإحياء، وتؤكد هذا التماثل بوضوح. فيقول الله عز شأنه:
)وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 57].
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزخرف: 11].
ويتضح التماثل بين إنبات النبات والخروج في الآيات الكريمات:
( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) [ق: 9 ـ 11].
رابعاً: الآيات التي ذكر فيها إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي:
وفي هذه الآيات تتجلى قدرة الخالق البارىء المصور، جل شأنه وعلا، في بعثه للحياة من الموات ووضعه السر الإلهي في المكونات الجمادية غير الحية لتكوين مكونات تنبض بالحياة فيقول الله جل شأنه:
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)[الروم: 19].
في سياق الحديث عن الخلق والإحياء تأتي الآية التي تليها بقوله سبحانه تعالى:
(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم: 20].
وترتبط هذه الآية القرآنية في سورة الأنعام إنبات النبات ونموه وخروجه، بخروج الحي من الميت والميت من الحي، فيقول جل شأنه وتعالت قدرته:
(إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) [الأنعام: 95].
وتدارسنا للعمليات التي يتم فيها تكوين المكونات الحية في جسم النبات من مكونات لسيطة غير حية، وتحلل النباتات ـ بل كل النباتات ـ لتعود سيرتها الأولى من مكونات غير حية، يساعدنا على تفهم هذه الآيات الكريمات.
وإذا كان العلماء قد تمكنوا من معرفة المسارات الكيميائية والحيوية والفسيولوجية التي يتم فيها اندماج المكونات غير الحية لتكون مكونات حية، فإنهم ما زالوا ـ وسيظلون ـ عاجزين عن تفهم السر الإلهي في بث الحياة في هذه المكونات.
خامساً: الإنبات، إخراج النبات، الموت والتحلل في ضوء العلم الحديث:
بإيجاز وبأسلوب خال من المصطلحات الفنية قدر الإمكان، نحاول عرض هذه العمليات في ضوء ما توصل العلم له، مما يساعدنا على الإحساس والشعور بالإعجاز الرباني، الذي تقف أمامه علوم الإنسان كلها مكتوفة الأيدي مسلمة لله الواحد القهار.
وفي حديثنا عن الإثبات، ينبغي أن نقدم نبذة مختصرة عن تركيب البذرة، وأهم مكونات البذرة الجنين، الذي يتكون من ريشة وهي التي تكون المجموع الخضري للنبات، وجذير وهو الذي يكون المجموع الجذري للنبات عادة، وفلقة أو فلقتين غالباً، قد تحويان مواد غذائية مختزنة، وقد تختزن المواد الغذائية خارجهما فيما يعرف باسم الأندوسبرم.
وهذه المواد المختزنة قد تكون مواد كربوهيدراتية أو بروتينية أو دهنية أو منها جميعاً بنسبة تختلف من نوع نباتي إلى آخر.
ويغلف البذرة غلاف يعرف باسم القصرة، به ثقب هو النقير الذي يمثل المدخل الذي يدخل منه الماء إلى البذرة.
وحجم البذرة قد يكون كبيراً أو غاية في الدقة، هذه البذرة بها جنين قابل للحياة (Viable)، والعمليات الكيميائية والحيوية والفسيولوجية فيها تكون عند أدنى معدلاتها، وذلك لنقص المحتوى المائي بها.
وتظل البذرة في حالتها هذه إلى آجال تختلف باختلاف الأنواع النباتية حتى تتوافر شروط الإنبات ومن أهمها وجود الماء.
هناك تشابه كبير بين دورة حياة الإنسان ودورة حياة النبات فالله سبحانه وتعالى يخلق في جسم النبات من المواد الغير عضوية مواد عضوية في أثناء عملية التركيب الضوئي والتي قد أمتصها من التربة والتي قد تكون بقايا نبات أو حيوان متحلل كذلك الله سبحانه وتعالى قادر أن يخلق الإنسان مرة أخرى بعد تحلله كما خلقه في النشأة الأولى ويجعل له أعضاء
عندئذٍ تبدأ عملية الإنبات. وتتمثل بخطوات متتابعة تبدأ بامتصاص الماء، ويؤدي ذلك إلى انتفاخ البذرة وتمزق غلافها، كما يقود وجود الماء إلى سلسلة من العمليات الكيميائية المترابطة من إذابة للأنزيمات أي: الخمائر وتحريك لها لتؤدي وظائفها في تكسير المواد المختزنة إلى مواد ذائبة يتغذى عليها الجنين، ليواصل انقسام خلاياه واستطالتها، ويؤدي ذلك إلى بزوغ الجذير والريشة.
ولو تركنا هذه البذرة النابتة في الظلام لنمت إلى حد محدود يتوقف على كمية المواد الغذائية المختزنة، ولأصبحت الرُيَّشة وما أنتجته من وريقات شاحبة، صفراء اللون، ويتوقف النمو، وتستهلك المواد الغذائية المختزنة نتيجة لعملية التنفس.
ورغم استمرار إمدادها بالماء وما به من مواد ذائبة غير عضوية، فإن مصيرها الموت لا محالة. وبذلك لا يكون الإنبات ناجحاً ومؤدياً الهدف الأساسي منه ـ وهو تكوين نبات ناضج يزهر ويثمر ـ إلا إذا تعرض للضوء، وخرجت ريشته فوق سطح الأرض.
هنا تبدأ أعجب عملية تحدث على وجه الأرض، وهي تكوين صبغة اليخضور ـ الكلوروفيل ـ وتكوين البلاستيدات الخضراء، وبدء عملية البناء الضوئي. والبلاستيدات الخضراء عضيات سيتوبلازمية ذوات تركيب هندسي معقد، حباها الله القدرة على الإفادة من الطاقة الضوئية، التي تمثل الطاقة الشمسية أهم مصادرها، وتحويل هذه الطاقة إلى طاقة كيميائية.
وتعرض النبات الأخضر إلى ضوء الشمس لفترة تمثل جزءاً صغيراً من الثانية يقود هذه البلاستيدات وما بها من كلوروفيل للبدء في عملها.
ودون دخول في تفاصيل علمية، فإنه من الصعب أن يتصور الإنسان أن توجد أو تنشأ حياة دون امتصاص الطاقة الإشعاعية وتحويلها إلى طاقة كيميائية.
فاصطياد هذه الطاقة وما يستتبعه من عمليات، يقود إلى تحويل ثاني أكسيد الكربون والماء إلى المواد الكربوهيدراتية، التي تمثل مصدراً للطاقة في الخلية، وتشكل مواد خاماً لتكوين وتشييد البروتين والدهون والمركبات النباتية الأخرى.
وبالإضافة إلى ثاني أكسيد الكربون الذي يأخذه النبات من الجو أو الماء، والماء الذي يمتصه من بيئته، فإن النباتات تمتص بعض العناصر والمركبات غير العضوية الذائبة في الماء، وبذلك فإن جل ما يأخذه النبات من بيئته، عناصر ومركبات غير عضوية.
ورغم ذلك: فإن هذه العناصر والمركبات تندمج مع المواد الكربوهيدراتية الناتجة عن البناء الضوئي، خلال عمليات عديدة معقدة، لتكون الكتلة الحية في جسم النبات.
فما هذه النباتات التي نراها أو لا نراها بالعين المجردة إلا كتل من المادة الحية ـ البروتوبلازم ومكوناته ـ وخلق هذه المادة الحية من المواد غير العضوية مستمر في النبات كل طرفه عين. ويستدل على ذلك ببساطة شديدة بنمو النبات، وبزيادة وزنه وكبر حجمه، وهي إضافات تتمثل بتكوين المادة الحية في جسم النبات تنشأ من مصادر غير حية.
وهذه العملية ـ عملية الخلق والإحياء ـ رغم رؤيتنا لمظاهرها ومعرفتنا ببعض مساراتها، إلا أن بث الحياة في هذه المكونات يظل السر الإلهي الذي لا ندركه.
وإن تمكن العلم الحديث من تصنيع وتشييد بعض المركبات العضوية من مركبات غير عضوية، فإنه يقف عاجزاً عن إحياء هذه المواد، أو بث الحياة فيها.
إن نزول الماء وإنبات النبات ونموه وإزهاره وإثماره، أمور لا دخل للإنسان في مسيرتها،ـ فهو يراها ويحسها، وقد يمهد الأرض للبذور، وقد يرويها ويتعهدها، أما مسارات التفاعلات وتكوين المواد في جسم النبات، وبناء الكتلة الحية في النبات، فإنها أمور لا يقدر عليها سوى الخالق القدير.
ولعل ربط الإحياء في النبات بالبعث نابع من طبيعة النباتات الخاصة التي حباها الله بها، فهي الكائنات الوحيدة التي أعطاها الله القدرة على تكوين جسمها الحي من مكونات غير حية، بل وغير عضوية.
وهذا ما يعرفه العلم الحديث بالتغذية الذاتية، وما عدا ذلك من كائنات لا تحوي اليخضور فإن تغذية أغلبها تغذية غير ذاتية، وتعتمد على غيرها في إمدادها بالغذاء المجهز.
وكل نبات أو حيوان أو إنسان ذائق الموت لا محالة، وقد تتعدد أسباب الموت، لكن النتيجة واحدة. فإن الأجسام العضوية لهذه الكائنات عندما تموت، تبدأ عمليات التحلل فيها، وذلك بواسطة عديد من أنواع الكائنات الدقيقة، التي أعطاها الله القدرة على إفراز كميات وأنواع من الأنزيمات والخمائر، رغم دقة حجمها وضآلته.
وتعمل هذه الخمائر على تكسير المواد المعقدة التركيب من مواد كربوهيدراتية أو دهنية أو بروتينية.
ونواتج عمليات التحلل في أي كائن من الكائنات تتضمن ثاني أكسيد الكربون الذي يعود للجو مرة أخرى، والماء الذي يعود سيرته الأولى، وبعض الرماد الذي يتكون من المركبات غير العضوية التي امتصها النبات أصلاً من التربة وانتقلت من النبات إلى حيوان أو إنسان ألتهمه.
وهكذا تدور المواد من البيئة المحيطة إلى النبات ثم إلى البيئة، أو تطول دورتها فتدخل جسم حيوان أو أكثر، أو جسم إنسان، حتى ترد مرة أخرى إلى البيئة.
ومن ثم توضح لنا دورات المواد مثل دورات الكربون والأكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت وغير ذلك، أن الأحياء بتحللها تخرج مواد غير حية.
وهكذا نستشعر الإعجاز في القرآن الكريم، حيث قدم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً معطيات لم يكن الإنسان عالماً بها، وسيظل الإنسان جاهلاً بكثير من جوانبها.
فربط علمية الإحياء بالخروج والبعث من الأمور التي لم ينتبه إليها العلم الدنيوي، رغم ورود العديد من الآيات الكريمات التي تؤكد هذه الرابطة، وتفرق بين نشأة النبات وبعث الإنسان.
وإنا لندعو الله مخلصين أن يكون تدارسنا لهذه الموضوعات تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.
واللافت للنظر أن ذكر إخراج النبت من الأرض جاء في جل الحالات في آيات مكيات كريمات. ولم يكن ذكر النباتات لمجرد تعداد نعم الله فحسب، إنما جاء في آيات ترتبط بعملية الخلق والإحياء والبعث والنشور، وفي آيات تحض الناس على التبصر والتأمل، والتعقل والتدبر، وفي آيات تبطل ما ينكره الكافرون من قدرة الله على الإحياء وخلق الحي من الميت، وبعث الناس من قبورهم بعد موتهم وهلاكهم.
والظاهرة اللافتة للنظر، والتي تستدعي التدبر والتأمل، هي اقتران نشأة الإنسان وبعثه في كثير من الآيات بنشأة النبات.
فكثير من الآيات القرآنية تؤكد الوحدة بين أصول الحياة على هذه الأرض، وأن عملية غنبات النبات ونموه، مثال للبعث بعد الموت والهلاك، فيقول الله تعالى وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39].
ويحفل القرآن الكريم بالآيات التي ترتبط بموضوع الخروج بمعنى البعث والإحياء وتزيد على الثلاثين آية في ثلاثة وعشرين سورة.
وترد فيها كلمة ( أخرج ) ومشتقاتها بهذا المعنى.
ومعظمها يربط بين إخراج النبات من الأرض ونموه، وبين البعث والخروج، وتؤكد أن إخراج الحي من الميت يرتبط بالنبات والإنسان.
وفي هذه الدراسة نستعرض الآيات الكريمات التي وردت فيها كلمة ( أخرج ) أو مشتقاتها فيما يتعلق بالنبات، والآيات التي تتحدث عن إحياء الأرض، وتلك التي تربط بين خروج النبات والبعث والإحياء، وخروج الحي من الميت والميت من الحي.
ونحاول أن نربط بين ما نعرفه من علوم النبات والبيئة وبين ما ورد في هذه الآيات الكريمات.
وفي هذا الصدد ينبغي أن نوضح أننا لسنا من المستشهدين على صحة كلام الله ـ تبارك وتعالى ـ بمعلوماتنا التي هي عرضة للنقص والخطأ، لكن تبصرنا في آيات الله، دفعنا لنفكر في آياته، وفي مخلوقاته في هذا الكون الفسيح وأن نفكر في الظاهرة التي يربط فيها القرآن بين خروج النبات من الأرض وإحياء الأرض والبعث والخروج، فهي مسألة جديرة بالتأمل والتدارس لما يكتنفها من إعجاز لا نستطيع إدراكه.
ونقوم بهذا التدارس مؤمنين بأن ما يقوم به العلم وما يصل إليه العلماء من معارف ما هو إ استجابة لأمر الله بالتبصر في خلقه، وأنهم ـ مهما توصلوا لمعرفة كثير من الظواهر ـ عاجزون لا محالة عن الوصول إلى سرها الذي لا يعلمه إلا الله.
أولاً: الآيات التي ذكرت فيها كلمة ( اخرج ) أو مشتقاتها فيما يتعلق بالنبات:
سنتعرض لتدارس الآيات الكريمات التي تتعلق بخروج النبات وما فيها من إعجاز، وقد جاءت في عشرة مواضع في القرآن الكريم على النحو التالي:
(الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ) [إبراهيم: 32].
(الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 22].
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)
) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ( [النبأ:14 ـ 16].
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ )[سورة الزمر]
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ {27} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )[سورة السجدة].
( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) [النازعات: 30 ـ 31].
( والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى) [الأعلى: 4 ـ5].
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى {53} كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ) [سورة طه:53].
(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لايَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 99].
تربط هذه الآيات الكريمات بين نزول الماء من السماء وبين إخراج النبات من الأرض.
إنها ظاهرة تتكرر كل يوم، ويعرفها كل إنسان، إلا أن دور الماء في إخراج النبات ونموه وعملياته الحيوية والفسيولوجية أمر لم يعرفه العلم إلا حديثاً.
ولسنا بصدد الحديث عن هذا الدور في هذا التمهيد، لأننا لن نتمكن من أن نوفيه حقه خشية تشعب موضوع دراساتنا الحالية، ولكنه ـ دون شك ـ موضوع جدير بالدراسة والتفكر.
وفيما سبق ذكره من آيات، يتحدث الخالق جل شأنه عن قدرته وأنه يخرج النبات من الأرض، وما إخراج النبات من الأرض إلا إحياء لها. والله يقول ـ عز من قائل ـ: ) وَآَيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) [يس: 33].
ثانياً: الآيات التي ذكر فيها الخروج بمعنى البعث والإحياء:
إن الخروج ـ ويعني البعث والنشور والإحياء ـ ورد في سبعة مواضع في القرآن الكريم، فيقول الله تعالى:
( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)[الروم: 25].
(وقال الذين كفروا أإذا كنا تراباً وآباؤنا أننا لمخرجون) [النمل: 67].
)أيعدكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون) [المؤمنون: 35].
( قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) [الأعراف: 25].
(منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [طه: 55].
ونلاحظ أن الآية الأخيرة جاءت بعد الآية التي ذكر الله فيها:
(فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى)
ويقول الله سبحانه وتعالى: )والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً)[نوح: 17 ـ 18].
ثالثاً: الآيات التي ربطت النبات والبعث والإحياء:
وقد وردت هذه الآيات في ثلاث سور من القرآن الكريم، وتربط بين إخراج النبات والبعث والإحياء، وتؤكد هذا التماثل بوضوح. فيقول الله عز شأنه:
)وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 57].
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزخرف: 11].
ويتضح التماثل بين إنبات النبات والخروج في الآيات الكريمات:
( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) [ق: 9 ـ 11].
رابعاً: الآيات التي ذكر فيها إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي:
وفي هذه الآيات تتجلى قدرة الخالق البارىء المصور، جل شأنه وعلا، في بعثه للحياة من الموات ووضعه السر الإلهي في المكونات الجمادية غير الحية لتكوين مكونات تنبض بالحياة فيقول الله جل شأنه:
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)[الروم: 19].
في سياق الحديث عن الخلق والإحياء تأتي الآية التي تليها بقوله سبحانه تعالى:
(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم: 20].
وترتبط هذه الآية القرآنية في سورة الأنعام إنبات النبات ونموه وخروجه، بخروج الحي من الميت والميت من الحي، فيقول جل شأنه وتعالت قدرته:
(إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) [الأنعام: 95].
وتدارسنا للعمليات التي يتم فيها تكوين المكونات الحية في جسم النبات من مكونات لسيطة غير حية، وتحلل النباتات ـ بل كل النباتات ـ لتعود سيرتها الأولى من مكونات غير حية، يساعدنا على تفهم هذه الآيات الكريمات.
وإذا كان العلماء قد تمكنوا من معرفة المسارات الكيميائية والحيوية والفسيولوجية التي يتم فيها اندماج المكونات غير الحية لتكون مكونات حية، فإنهم ما زالوا ـ وسيظلون ـ عاجزين عن تفهم السر الإلهي في بث الحياة في هذه المكونات.
خامساً: الإنبات، إخراج النبات، الموت والتحلل في ضوء العلم الحديث:
بإيجاز وبأسلوب خال من المصطلحات الفنية قدر الإمكان، نحاول عرض هذه العمليات في ضوء ما توصل العلم له، مما يساعدنا على الإحساس والشعور بالإعجاز الرباني، الذي تقف أمامه علوم الإنسان كلها مكتوفة الأيدي مسلمة لله الواحد القهار.
وفي حديثنا عن الإثبات، ينبغي أن نقدم نبذة مختصرة عن تركيب البذرة، وأهم مكونات البذرة الجنين، الذي يتكون من ريشة وهي التي تكون المجموع الخضري للنبات، وجذير وهو الذي يكون المجموع الجذري للنبات عادة، وفلقة أو فلقتين غالباً، قد تحويان مواد غذائية مختزنة، وقد تختزن المواد الغذائية خارجهما فيما يعرف باسم الأندوسبرم.
وهذه المواد المختزنة قد تكون مواد كربوهيدراتية أو بروتينية أو دهنية أو منها جميعاً بنسبة تختلف من نوع نباتي إلى آخر.
ويغلف البذرة غلاف يعرف باسم القصرة، به ثقب هو النقير الذي يمثل المدخل الذي يدخل منه الماء إلى البذرة.
وحجم البذرة قد يكون كبيراً أو غاية في الدقة، هذه البذرة بها جنين قابل للحياة (Viable)، والعمليات الكيميائية والحيوية والفسيولوجية فيها تكون عند أدنى معدلاتها، وذلك لنقص المحتوى المائي بها.
وتظل البذرة في حالتها هذه إلى آجال تختلف باختلاف الأنواع النباتية حتى تتوافر شروط الإنبات ومن أهمها وجود الماء.
هناك تشابه كبير بين دورة حياة الإنسان ودورة حياة النبات فالله سبحانه وتعالى يخلق في جسم النبات من المواد الغير عضوية مواد عضوية في أثناء عملية التركيب الضوئي والتي قد أمتصها من التربة والتي قد تكون بقايا نبات أو حيوان متحلل كذلك الله سبحانه وتعالى قادر أن يخلق الإنسان مرة أخرى بعد تحلله كما خلقه في النشأة الأولى ويجعل له أعضاء
عندئذٍ تبدأ عملية الإنبات. وتتمثل بخطوات متتابعة تبدأ بامتصاص الماء، ويؤدي ذلك إلى انتفاخ البذرة وتمزق غلافها، كما يقود وجود الماء إلى سلسلة من العمليات الكيميائية المترابطة من إذابة للأنزيمات أي: الخمائر وتحريك لها لتؤدي وظائفها في تكسير المواد المختزنة إلى مواد ذائبة يتغذى عليها الجنين، ليواصل انقسام خلاياه واستطالتها، ويؤدي ذلك إلى بزوغ الجذير والريشة.
ولو تركنا هذه البذرة النابتة في الظلام لنمت إلى حد محدود يتوقف على كمية المواد الغذائية المختزنة، ولأصبحت الرُيَّشة وما أنتجته من وريقات شاحبة، صفراء اللون، ويتوقف النمو، وتستهلك المواد الغذائية المختزنة نتيجة لعملية التنفس.
ورغم استمرار إمدادها بالماء وما به من مواد ذائبة غير عضوية، فإن مصيرها الموت لا محالة. وبذلك لا يكون الإنبات ناجحاً ومؤدياً الهدف الأساسي منه ـ وهو تكوين نبات ناضج يزهر ويثمر ـ إلا إذا تعرض للضوء، وخرجت ريشته فوق سطح الأرض.
هنا تبدأ أعجب عملية تحدث على وجه الأرض، وهي تكوين صبغة اليخضور ـ الكلوروفيل ـ وتكوين البلاستيدات الخضراء، وبدء عملية البناء الضوئي. والبلاستيدات الخضراء عضيات سيتوبلازمية ذوات تركيب هندسي معقد، حباها الله القدرة على الإفادة من الطاقة الضوئية، التي تمثل الطاقة الشمسية أهم مصادرها، وتحويل هذه الطاقة إلى طاقة كيميائية.
وتعرض النبات الأخضر إلى ضوء الشمس لفترة تمثل جزءاً صغيراً من الثانية يقود هذه البلاستيدات وما بها من كلوروفيل للبدء في عملها.
ودون دخول في تفاصيل علمية، فإنه من الصعب أن يتصور الإنسان أن توجد أو تنشأ حياة دون امتصاص الطاقة الإشعاعية وتحويلها إلى طاقة كيميائية.
فاصطياد هذه الطاقة وما يستتبعه من عمليات، يقود إلى تحويل ثاني أكسيد الكربون والماء إلى المواد الكربوهيدراتية، التي تمثل مصدراً للطاقة في الخلية، وتشكل مواد خاماً لتكوين وتشييد البروتين والدهون والمركبات النباتية الأخرى.
وبالإضافة إلى ثاني أكسيد الكربون الذي يأخذه النبات من الجو أو الماء، والماء الذي يمتصه من بيئته، فإن النباتات تمتص بعض العناصر والمركبات غير العضوية الذائبة في الماء، وبذلك فإن جل ما يأخذه النبات من بيئته، عناصر ومركبات غير عضوية.
ورغم ذلك: فإن هذه العناصر والمركبات تندمج مع المواد الكربوهيدراتية الناتجة عن البناء الضوئي، خلال عمليات عديدة معقدة، لتكون الكتلة الحية في جسم النبات.
فما هذه النباتات التي نراها أو لا نراها بالعين المجردة إلا كتل من المادة الحية ـ البروتوبلازم ومكوناته ـ وخلق هذه المادة الحية من المواد غير العضوية مستمر في النبات كل طرفه عين. ويستدل على ذلك ببساطة شديدة بنمو النبات، وبزيادة وزنه وكبر حجمه، وهي إضافات تتمثل بتكوين المادة الحية في جسم النبات تنشأ من مصادر غير حية.
وهذه العملية ـ عملية الخلق والإحياء ـ رغم رؤيتنا لمظاهرها ومعرفتنا ببعض مساراتها، إلا أن بث الحياة في هذه المكونات يظل السر الإلهي الذي لا ندركه.
وإن تمكن العلم الحديث من تصنيع وتشييد بعض المركبات العضوية من مركبات غير عضوية، فإنه يقف عاجزاً عن إحياء هذه المواد، أو بث الحياة فيها.
إن نزول الماء وإنبات النبات ونموه وإزهاره وإثماره، أمور لا دخل للإنسان في مسيرتها،ـ فهو يراها ويحسها، وقد يمهد الأرض للبذور، وقد يرويها ويتعهدها، أما مسارات التفاعلات وتكوين المواد في جسم النبات، وبناء الكتلة الحية في النبات، فإنها أمور لا يقدر عليها سوى الخالق القدير.
ولعل ربط الإحياء في النبات بالبعث نابع من طبيعة النباتات الخاصة التي حباها الله بها، فهي الكائنات الوحيدة التي أعطاها الله القدرة على تكوين جسمها الحي من مكونات غير حية، بل وغير عضوية.
وهذا ما يعرفه العلم الحديث بالتغذية الذاتية، وما عدا ذلك من كائنات لا تحوي اليخضور فإن تغذية أغلبها تغذية غير ذاتية، وتعتمد على غيرها في إمدادها بالغذاء المجهز.
وكل نبات أو حيوان أو إنسان ذائق الموت لا محالة، وقد تتعدد أسباب الموت، لكن النتيجة واحدة. فإن الأجسام العضوية لهذه الكائنات عندما تموت، تبدأ عمليات التحلل فيها، وذلك بواسطة عديد من أنواع الكائنات الدقيقة، التي أعطاها الله القدرة على إفراز كميات وأنواع من الأنزيمات والخمائر، رغم دقة حجمها وضآلته.
وتعمل هذه الخمائر على تكسير المواد المعقدة التركيب من مواد كربوهيدراتية أو دهنية أو بروتينية.
ونواتج عمليات التحلل في أي كائن من الكائنات تتضمن ثاني أكسيد الكربون الذي يعود للجو مرة أخرى، والماء الذي يعود سيرته الأولى، وبعض الرماد الذي يتكون من المركبات غير العضوية التي امتصها النبات أصلاً من التربة وانتقلت من النبات إلى حيوان أو إنسان ألتهمه.
وهكذا تدور المواد من البيئة المحيطة إلى النبات ثم إلى البيئة، أو تطول دورتها فتدخل جسم حيوان أو أكثر، أو جسم إنسان، حتى ترد مرة أخرى إلى البيئة.
ومن ثم توضح لنا دورات المواد مثل دورات الكربون والأكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت وغير ذلك، أن الأحياء بتحللها تخرج مواد غير حية.
وهكذا نستشعر الإعجاز في القرآن الكريم، حيث قدم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً معطيات لم يكن الإنسان عالماً بها، وسيظل الإنسان جاهلاً بكثير من جوانبها.
فربط علمية الإحياء بالخروج والبعث من الأمور التي لم ينتبه إليها العلم الدنيوي، رغم ورود العديد من الآيات الكريمات التي تؤكد هذه الرابطة، وتفرق بين نشأة النبات وبعث الإنسان.
وإنا لندعو الله مخلصين أن يكون تدارسنا لهذه الموضوعات تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.