الرئيسية
أمس في 11:30 am من طرف amira333
الإبل في الصومال.. رمز الثروة والشرف والحرية
________________________________________
[مَاندِيق (الناقة) اسم شاع في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في الصومال كرمز للحرية المسلوبة والثروة الضائعة التي نهبها الاحتلال البريطاني والإيطالي فاستخدمته أحزاب الاستقلال للتدليل على أهميتها واستثارة غضب الجماهير ضد الاحتلال فكان ما كان.
الألفة تربط بين الإبل وصاحبها
وفي عام 1990 قبل أشهر من انهيار الحكم المركزي في الصومال خطب عقيد منشق ومعارض للحكومة في مجموعة من الشباب البدو، وقال لهم: ماذا ستفعلون إذا نُهبت منكم نوقكم وجردكم منها عدو؟ فكان جوابهم سريعا بأنهم سيموتون في سبيل استعادتها. وعزف العقيد على الوتر وقال: إن قبيلة الرئيس (الجنرال محمد سياد بري) نهبت منكم ما هو أغلى من النوق واستأثرت بخيرات البلاد، وسـتأتيكم هنا ليأخذوا ما تبقى لكم من النوق.. فماذا تنتظرون؟".
ووصلت الرسالة بكل ما تعنيه، فحمل رعاة الإبل السلاح في هذه الحرب الوقائية ولم يقفوا حتى وصلوا إلى بوابة قصر الرئيس، وأجبروه على الفرار وسط برك من الدم لا تزال سائلة حتى اليوم.
وفي حرب الأمريكان 1993 اعتقد مقاتلو المليشيات الصومالية بأن الجندي الأمريكي "نصف رجل"؛ لأنه راعي بقر ولا ينتصر في ميدان، فواجهوه بشيء من الاستخفاف على الرغم من الآلة العسكرية الضخمة التي كانت بحوزته، والطريف أنهم يرون أن نظرتهم كانت صائبة وأن نبوءتهم صدقت، أَجبر راعي الإبل راعيَ البقر على الفرار والانسحاب من الصومال بعد أن ترك رفاقه يُسحلون على الأرض على يد رعاة الإبل من العرب السمار.
فلماذا اقترنت الرجولة لدى الصومالي برعي الإبل وشرْب لبنها وأكْل لحمها؟ وكيف أصبحت النوق رمزا يستحق الموت دونه في ثقافة الصوماليين؟ وما القيمة الحقيقية للإبل في حياتهم؟ قد تكون هذه السطور حلا لفك هذا اللغز المثير!
الإبل ثقافة ونمط حياة
لم يعد رعي الإبل باعتباره العمود الفقري للحياة تاريخا وأشعارا يتناقله الدارسون في بطون الكتب، وإنما ممارسة حياتية تتحكم في أنماط العيش هنا في الصومال، حيث الغالبية العظمى من السكان رعويون، فإن الإبل تحتل مكانة كبيرة منذ قرون كمعيار للثروة والشرف والمنعة وكل ما يمت إلى معركة البقاء في هذا الركن القصي من جنوب الوطن العربي الذي يعد أحد الجيوب القليلة المتبقية المتمسكة بالإبل كقيمة إنسانية وحياتية.
وقد احتلت الإبل المكانة الكبرى في حياة الصوماليين كوسيلة حياة وكرمز للثروة والمكانة (على عكس المواشي الأخرى كالغنم والبقر التي يتم امتلاكها كتكملة أو ضرورة كفقر مثلا) لأسباب عدة، منها أنها توفر كمية من الألبان تكفي لإعاشة الأسرة أو العائلة وكذلك قوة تحملها؛ حيث إنها تصبر عن المياه لأسابيع، وكذلك يتيسر إبعادها عن مواطن الخطر بسرعة، ثم لحمها الكثير الذي يبقى لفترة طويلة، ويمكن ذبحها لجمع من الضيوف أو في مناسبات محددة تتطلب توفير قدر كبير من اللحم. يضاف إلى ذلك أنها ترمز إلى قوة العائلة ومنعتها بحيث تكون مهيبة الجانب، وتتمنى العائلات مصاهرتها.
اللبن واللحم
تعتبر الناقة مصدرا مهما للبن
هناك ميزتان أساسيتان يوفرهما امتلاك الإبل هما المنافع القريبة والمباشرة للإبل في حياة البدوي الصومالي؛ فلبن الإبل يبقى لفترة أطول دون إضافة أي مواد حافظة إليه أو عليه، ويمكن احتلاب الإبل 3 أو 4 مرات في اليوم، بينما لا يمكن احتلاب البقر أو الماعز إلا مرتين متباعدتين فقط في اليوم، كما يمكن قرى الضيف بلبن الإبل فقط؛ لأنه بمنزلة جميع الأطعمة، بينما لا تكفي الألبان لضيافة الوافد، وكذلك يستطيع الإنسان أن يعيش لأيام على لبن الإبل فقط دون غيره من الألبان.
أما لحم الإبل فيمتاز أيضا عن بقية المواشي بأنه يطعم نفرا كثيرين (100 شخص تقريبا)؛ حيث إنه في حالة القرى الطارئ فإن حسن الضيافة لا يكتمل حتى وإن ذبح المضيف لهم عددا من البقر أو الماعز، لكن في حالة ذبح جمل لهم فإن ذلك بمثابة تكريم لائق للوافدين وكذلك الحال في الحوليات التي تقام على روح الأجداد، وكذلك عند دفن الموتى، حيث يذبح جمل في منزل المتوفى لإطعام المشيعين، ومثل لبنه فإن لحم الإبل يبقى لفترات طويلة ويحمله المسافر معه ليأكله دون أن تنقص قيمته الغذائية.
وفي حالات الحروب فإن مقاتلي القبائل يتزودون من لحم الإبل أو يذبحونه عند الاستعداد لشن الغارات، وهو يعطيهم طاقة قوية لقطع مسافات بعيدة يتخللها الكر والفر، وهذا ما لا توفره لحوم المواشي الأخرى.
المركب والتحمل
والميزتان الأخريان هما: المركب وقوة التحمل؛ حيث إن سفينة الصحراء هي وسيلة النقل الأساسية لنقل المياه من الآبار البعيدة أو حمل أمتعة الأسرة عند الارتحال إلى مواطن الكلأ والماء، وتجبر حياة الترحال الأسرة على امتلاك عدد من الجمال المتخصصة لنقل الأطفال والمسنين والخيم البدوية ولوازمها وأوعية المياه، وكذلك يستخدم الجمل في نقل البضائع من وإلى القرى الريفية أو الأسواق الموسمية يضاف إلى ذلك أن المسافر يستخدم الجمل لريادة مواقع المطر للأسرة قبل الارتحال إليها.
وتستغرق عملية إعداد الجمل للركوب سنوات عدة يخضع فيها إلى سلسلة من التسييس المستمر على يد رب العائلة، حيث يحمل عليه أحمالا خفيفة لا تتضرر بالسقوط عندما يرفضها البعير الصغير إلى أن يتعود ذلك لاحقا ويصبح طيعا، ويعتبر البعير الطيع والسلس القيادة أهم واحد في قطيع الإبل، حيث لا يذبح ولا يدفع كغرامة إلا في حالة الضرورة الملحة.
ومن ميزات الإبل أن لديها قوة التحمل الزائدة، حيث يتحمل العطش والجوع لفترات طويلة، وفي المنطقة الصومالية شبه الصحراوية فإن مواسم القحط والجدب تتكرر على طول الأعوام، وغالبا ما تهلك المواشي الأخرى بسبب ذلك، وتبقى الإبل هي القادرة وحدها على اجتياز هذه المشكلة، وصاحب الإبل لا يخاف على أسرته من الموت جوعا، فيما تلجأ العائلات الفقيرة التي لا تملك إبلا إلى القرى بعد نفاد مواشيها، أو تلجأ إلى الأقارب ليعيروهم ناقة أو ناقتين لتوفير الحليب للأطفال، وفي بعض المرات تقايض مجموعة من الأسر الفقيرة عددا من الماعز أو الضأن 9-15 بناقة واحدة أو جمل، ثم يذبحونها ويقتسمون لحمها ليعيشوا به فترة من الزمن.
ثروة جماعية
تلك الميزات المذكورة هي التي جعلت الإبل مناط الحياة في البيئة الرعوية الصومالية، كما تمثل المنافع المباشرة للإبل، لكن منافعها العامة والمعنوية تتجاوز محيط مالكها وأسرتها إلى المحيط العائلي أو القبلي؛ فملاك الإبل هم المرموقون في محيط القبيلة وكلمتهم مسموعة لأنهم يتحملون العبء الأكبر في حالات التبعات المالية التي لا يسددها إلا الإبل، وعلى هذا الأساس فإن المحافظة على هذه الثروة والدفاع عنها في حالة الحرب واستعادتها عندما تكون سائبة وسقيها إذا حضرت البئر كل ذلك واجب قبلي عام لا يمكن للفرد أن يتساهل فيه، ويتعرض للتغريم في حالة مخالفة ذلك.
وامتلاك الإبل تحكمه معايير أخرى مهمة للاحتفاظ به؛ إذ يجب أن ينتمي راعي الإبل أو مالكها إلى عائلة أو قبيلة ذات منعة فيها العدد الكافي من الرجال المقاتلين الذين يستطيعون حمايتها من نهب القبائل المعادية، ويستطيعون سقيها عند البئر أو يستطيعون منازلة الأسد عندما يغير على الناقة ليفترسها، وهذا الالتزام الأدبي للقبيلة تجاه إبلها عبارة عن اتفاق غير مكتوب للمحافظة على مكانة القبلية بين القبائل!
القيمة المالية
طفلة تلهو مع الناقة
وهناك معاملات مالية لا يدفع فيها إلا الإبل والنوق بالذات، حيث لا تقبل فيها غير الإبل مهما كان عددها، وهذه المعاملات حلقة مهمة من حلقات التقاليد الصومالية؛ كالدية والحظوة (ما يدفع عن الفتاة عند زواجها)، وكذلك الشرف الفردي الذي يحتله الفرد داخل المجموعة القبلية. فالإبل وحدها التي يمكن أن تكون عوضا عن دم المقتول، ولا يقوم بها أي شيء آخر من المواشي أو النقود؛ ففي البيئة الصحراوية التي تكثر فيها المناوشات والمصادمات التي تؤدي إلى القتل فإن حياة المعتدي ترتبط بمائة من الإبل تدفعها قبيلته فورا وإلا يتم القصاص منه، أو تثور حرب ضروس بين الفريقين إذا لم تدفع هذه الفدية.
وعلى ضوء ذلك فإن عدم امتلاك الإبل ينعكس على قوة القبيلة، حيث القبائل التي لا تملك إبلا تميل إلى الهدوء وعدم خوض الحروب؛ لأنها لا تستطيع توفير التبعات المالية التي تنجم عن ذلك، ويترتب عليها أشياء أخرى منها أن ابنتهم غير مرغوبة في الزواج؛ لأن ولدها لن يثور لأخيه أو لقبيلته بسبب الجبن والضعف الذي رضعه من أمه!
وكذلك الأمر مع الشاب الذي ينتمي إلى عائلة لا تملك الإبل، لا يستطيع أن يتزوج من ابنة راعي الإبل؛ لأنه "نصف رجل" فيجب عليه أن يتزوج فتاة من رعاة البقر أو الغنم!
تصنيف الرجال
وترتبط شرف المكانة التي يحملها الرجل بأعداد الإبل التي يملكها؛ لأنه هو الذي يستطيع أن يقري الجموع الكثيرة من الضيوف، وينقذ حياة ابن القبيلة عندما يقاد إلى ميدان القصاص أو يستطيع أن يطلب لابنه فتاة العائلات النبيلة، ويضمن لنفسه صلات اجتماعية وقبلية مهمة، وقد يصبح زعيم القبيلة بناء على هذه المواصفات.
وفي بيئة رعاة الإبل في الصومال فإن الرجال يتم تصنيفهم إلى ثلاثة أصناف؛ رجل كامل: وهو راعي الإبل الذي يملك قدرا محترما منها، ونصف رجل وهو راعي البقر الذي يتربى على الضعف والكسل مثل بقره، ورجل ليس برجل وهو راعي الغنم! (لأنه يعمل عملا تختص به النساء والأطفال).
وقد تحدث شاعر صومالي عن مصير أولئك الذين لا يملكون إبلا حيث يكونون مضطرين إلى امتهان الحرف الوضيعة في نظره ليعيش منها، فقال:
ابتعد الشرف والنبل عن الرجل الذي لا يملك النوق
الذي لا يسـتحـق أن يصب له الحليب الطري
يلقي الشـباك في البحـر ولا يبرح الشـاطئ
ولا يتعفف عن الاقـتراب من الكـافـر (المحتل)
ويـصـب لـه القـهـوة ويغـسـل ثيـابـه
وبيئة الإبل لا تتورع عن السعي إلى امتلاك الإبل بكل ثمن، وتشيع في أوساط رعاة الإبل أن الإبل تستحق أن يُدفع في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، وحتى النفيس أيضا لحيازة الإبل. وقال شاعر صومالي في إشارة إلى هذا الأمر:
إن النـوق إذا دخـلت حظـيرتـك
لا يضيرها أن تدخلها بالحلال أو بالحرام
وهذا بغض النظر عن كل شيء فإن هذا كاف للدلالة على أهمية الإبل ومكانتها في وجدان الرعاة، سواء جاء بالنهب أو بالملك الحلال؛ فهي عماد الحياة وتستحق التملك كما تستحق الاحتفاظ بها مهما كلف ذلك من ثمن. فالإبل في ثقافة البدوي الصومالي أن تكون أو لا تكون. ولم يجد السياسيون أو المقاتلون أفضل من توظيف مفهوم "الإبل" وتوسيعه في استخدامها للوصول إلى مصالحهم التي يريدون تحقيقيها.
________________________________________
[مَاندِيق (الناقة) اسم شاع في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في الصومال كرمز للحرية المسلوبة والثروة الضائعة التي نهبها الاحتلال البريطاني والإيطالي فاستخدمته أحزاب الاستقلال للتدليل على أهميتها واستثارة غضب الجماهير ضد الاحتلال فكان ما كان.
الألفة تربط بين الإبل وصاحبها
وفي عام 1990 قبل أشهر من انهيار الحكم المركزي في الصومال خطب عقيد منشق ومعارض للحكومة في مجموعة من الشباب البدو، وقال لهم: ماذا ستفعلون إذا نُهبت منكم نوقكم وجردكم منها عدو؟ فكان جوابهم سريعا بأنهم سيموتون في سبيل استعادتها. وعزف العقيد على الوتر وقال: إن قبيلة الرئيس (الجنرال محمد سياد بري) نهبت منكم ما هو أغلى من النوق واستأثرت بخيرات البلاد، وسـتأتيكم هنا ليأخذوا ما تبقى لكم من النوق.. فماذا تنتظرون؟".
ووصلت الرسالة بكل ما تعنيه، فحمل رعاة الإبل السلاح في هذه الحرب الوقائية ولم يقفوا حتى وصلوا إلى بوابة قصر الرئيس، وأجبروه على الفرار وسط برك من الدم لا تزال سائلة حتى اليوم.
وفي حرب الأمريكان 1993 اعتقد مقاتلو المليشيات الصومالية بأن الجندي الأمريكي "نصف رجل"؛ لأنه راعي بقر ولا ينتصر في ميدان، فواجهوه بشيء من الاستخفاف على الرغم من الآلة العسكرية الضخمة التي كانت بحوزته، والطريف أنهم يرون أن نظرتهم كانت صائبة وأن نبوءتهم صدقت، أَجبر راعي الإبل راعيَ البقر على الفرار والانسحاب من الصومال بعد أن ترك رفاقه يُسحلون على الأرض على يد رعاة الإبل من العرب السمار.
فلماذا اقترنت الرجولة لدى الصومالي برعي الإبل وشرْب لبنها وأكْل لحمها؟ وكيف أصبحت النوق رمزا يستحق الموت دونه في ثقافة الصوماليين؟ وما القيمة الحقيقية للإبل في حياتهم؟ قد تكون هذه السطور حلا لفك هذا اللغز المثير!
الإبل ثقافة ونمط حياة
لم يعد رعي الإبل باعتباره العمود الفقري للحياة تاريخا وأشعارا يتناقله الدارسون في بطون الكتب، وإنما ممارسة حياتية تتحكم في أنماط العيش هنا في الصومال، حيث الغالبية العظمى من السكان رعويون، فإن الإبل تحتل مكانة كبيرة منذ قرون كمعيار للثروة والشرف والمنعة وكل ما يمت إلى معركة البقاء في هذا الركن القصي من جنوب الوطن العربي الذي يعد أحد الجيوب القليلة المتبقية المتمسكة بالإبل كقيمة إنسانية وحياتية.
وقد احتلت الإبل المكانة الكبرى في حياة الصوماليين كوسيلة حياة وكرمز للثروة والمكانة (على عكس المواشي الأخرى كالغنم والبقر التي يتم امتلاكها كتكملة أو ضرورة كفقر مثلا) لأسباب عدة، منها أنها توفر كمية من الألبان تكفي لإعاشة الأسرة أو العائلة وكذلك قوة تحملها؛ حيث إنها تصبر عن المياه لأسابيع، وكذلك يتيسر إبعادها عن مواطن الخطر بسرعة، ثم لحمها الكثير الذي يبقى لفترة طويلة، ويمكن ذبحها لجمع من الضيوف أو في مناسبات محددة تتطلب توفير قدر كبير من اللحم. يضاف إلى ذلك أنها ترمز إلى قوة العائلة ومنعتها بحيث تكون مهيبة الجانب، وتتمنى العائلات مصاهرتها.
اللبن واللحم
تعتبر الناقة مصدرا مهما للبن
هناك ميزتان أساسيتان يوفرهما امتلاك الإبل هما المنافع القريبة والمباشرة للإبل في حياة البدوي الصومالي؛ فلبن الإبل يبقى لفترة أطول دون إضافة أي مواد حافظة إليه أو عليه، ويمكن احتلاب الإبل 3 أو 4 مرات في اليوم، بينما لا يمكن احتلاب البقر أو الماعز إلا مرتين متباعدتين فقط في اليوم، كما يمكن قرى الضيف بلبن الإبل فقط؛ لأنه بمنزلة جميع الأطعمة، بينما لا تكفي الألبان لضيافة الوافد، وكذلك يستطيع الإنسان أن يعيش لأيام على لبن الإبل فقط دون غيره من الألبان.
أما لحم الإبل فيمتاز أيضا عن بقية المواشي بأنه يطعم نفرا كثيرين (100 شخص تقريبا)؛ حيث إنه في حالة القرى الطارئ فإن حسن الضيافة لا يكتمل حتى وإن ذبح المضيف لهم عددا من البقر أو الماعز، لكن في حالة ذبح جمل لهم فإن ذلك بمثابة تكريم لائق للوافدين وكذلك الحال في الحوليات التي تقام على روح الأجداد، وكذلك عند دفن الموتى، حيث يذبح جمل في منزل المتوفى لإطعام المشيعين، ومثل لبنه فإن لحم الإبل يبقى لفترات طويلة ويحمله المسافر معه ليأكله دون أن تنقص قيمته الغذائية.
وفي حالات الحروب فإن مقاتلي القبائل يتزودون من لحم الإبل أو يذبحونه عند الاستعداد لشن الغارات، وهو يعطيهم طاقة قوية لقطع مسافات بعيدة يتخللها الكر والفر، وهذا ما لا توفره لحوم المواشي الأخرى.
المركب والتحمل
والميزتان الأخريان هما: المركب وقوة التحمل؛ حيث إن سفينة الصحراء هي وسيلة النقل الأساسية لنقل المياه من الآبار البعيدة أو حمل أمتعة الأسرة عند الارتحال إلى مواطن الكلأ والماء، وتجبر حياة الترحال الأسرة على امتلاك عدد من الجمال المتخصصة لنقل الأطفال والمسنين والخيم البدوية ولوازمها وأوعية المياه، وكذلك يستخدم الجمل في نقل البضائع من وإلى القرى الريفية أو الأسواق الموسمية يضاف إلى ذلك أن المسافر يستخدم الجمل لريادة مواقع المطر للأسرة قبل الارتحال إليها.
وتستغرق عملية إعداد الجمل للركوب سنوات عدة يخضع فيها إلى سلسلة من التسييس المستمر على يد رب العائلة، حيث يحمل عليه أحمالا خفيفة لا تتضرر بالسقوط عندما يرفضها البعير الصغير إلى أن يتعود ذلك لاحقا ويصبح طيعا، ويعتبر البعير الطيع والسلس القيادة أهم واحد في قطيع الإبل، حيث لا يذبح ولا يدفع كغرامة إلا في حالة الضرورة الملحة.
ومن ميزات الإبل أن لديها قوة التحمل الزائدة، حيث يتحمل العطش والجوع لفترات طويلة، وفي المنطقة الصومالية شبه الصحراوية فإن مواسم القحط والجدب تتكرر على طول الأعوام، وغالبا ما تهلك المواشي الأخرى بسبب ذلك، وتبقى الإبل هي القادرة وحدها على اجتياز هذه المشكلة، وصاحب الإبل لا يخاف على أسرته من الموت جوعا، فيما تلجأ العائلات الفقيرة التي لا تملك إبلا إلى القرى بعد نفاد مواشيها، أو تلجأ إلى الأقارب ليعيروهم ناقة أو ناقتين لتوفير الحليب للأطفال، وفي بعض المرات تقايض مجموعة من الأسر الفقيرة عددا من الماعز أو الضأن 9-15 بناقة واحدة أو جمل، ثم يذبحونها ويقتسمون لحمها ليعيشوا به فترة من الزمن.
ثروة جماعية
تلك الميزات المذكورة هي التي جعلت الإبل مناط الحياة في البيئة الرعوية الصومالية، كما تمثل المنافع المباشرة للإبل، لكن منافعها العامة والمعنوية تتجاوز محيط مالكها وأسرتها إلى المحيط العائلي أو القبلي؛ فملاك الإبل هم المرموقون في محيط القبيلة وكلمتهم مسموعة لأنهم يتحملون العبء الأكبر في حالات التبعات المالية التي لا يسددها إلا الإبل، وعلى هذا الأساس فإن المحافظة على هذه الثروة والدفاع عنها في حالة الحرب واستعادتها عندما تكون سائبة وسقيها إذا حضرت البئر كل ذلك واجب قبلي عام لا يمكن للفرد أن يتساهل فيه، ويتعرض للتغريم في حالة مخالفة ذلك.
وامتلاك الإبل تحكمه معايير أخرى مهمة للاحتفاظ به؛ إذ يجب أن ينتمي راعي الإبل أو مالكها إلى عائلة أو قبيلة ذات منعة فيها العدد الكافي من الرجال المقاتلين الذين يستطيعون حمايتها من نهب القبائل المعادية، ويستطيعون سقيها عند البئر أو يستطيعون منازلة الأسد عندما يغير على الناقة ليفترسها، وهذا الالتزام الأدبي للقبيلة تجاه إبلها عبارة عن اتفاق غير مكتوب للمحافظة على مكانة القبلية بين القبائل!
القيمة المالية
طفلة تلهو مع الناقة
وهناك معاملات مالية لا يدفع فيها إلا الإبل والنوق بالذات، حيث لا تقبل فيها غير الإبل مهما كان عددها، وهذه المعاملات حلقة مهمة من حلقات التقاليد الصومالية؛ كالدية والحظوة (ما يدفع عن الفتاة عند زواجها)، وكذلك الشرف الفردي الذي يحتله الفرد داخل المجموعة القبلية. فالإبل وحدها التي يمكن أن تكون عوضا عن دم المقتول، ولا يقوم بها أي شيء آخر من المواشي أو النقود؛ ففي البيئة الصحراوية التي تكثر فيها المناوشات والمصادمات التي تؤدي إلى القتل فإن حياة المعتدي ترتبط بمائة من الإبل تدفعها قبيلته فورا وإلا يتم القصاص منه، أو تثور حرب ضروس بين الفريقين إذا لم تدفع هذه الفدية.
وعلى ضوء ذلك فإن عدم امتلاك الإبل ينعكس على قوة القبيلة، حيث القبائل التي لا تملك إبلا تميل إلى الهدوء وعدم خوض الحروب؛ لأنها لا تستطيع توفير التبعات المالية التي تنجم عن ذلك، ويترتب عليها أشياء أخرى منها أن ابنتهم غير مرغوبة في الزواج؛ لأن ولدها لن يثور لأخيه أو لقبيلته بسبب الجبن والضعف الذي رضعه من أمه!
وكذلك الأمر مع الشاب الذي ينتمي إلى عائلة لا تملك الإبل، لا يستطيع أن يتزوج من ابنة راعي الإبل؛ لأنه "نصف رجل" فيجب عليه أن يتزوج فتاة من رعاة البقر أو الغنم!
تصنيف الرجال
وترتبط شرف المكانة التي يحملها الرجل بأعداد الإبل التي يملكها؛ لأنه هو الذي يستطيع أن يقري الجموع الكثيرة من الضيوف، وينقذ حياة ابن القبيلة عندما يقاد إلى ميدان القصاص أو يستطيع أن يطلب لابنه فتاة العائلات النبيلة، ويضمن لنفسه صلات اجتماعية وقبلية مهمة، وقد يصبح زعيم القبيلة بناء على هذه المواصفات.
وفي بيئة رعاة الإبل في الصومال فإن الرجال يتم تصنيفهم إلى ثلاثة أصناف؛ رجل كامل: وهو راعي الإبل الذي يملك قدرا محترما منها، ونصف رجل وهو راعي البقر الذي يتربى على الضعف والكسل مثل بقره، ورجل ليس برجل وهو راعي الغنم! (لأنه يعمل عملا تختص به النساء والأطفال).
وقد تحدث شاعر صومالي عن مصير أولئك الذين لا يملكون إبلا حيث يكونون مضطرين إلى امتهان الحرف الوضيعة في نظره ليعيش منها، فقال:
ابتعد الشرف والنبل عن الرجل الذي لا يملك النوق
الذي لا يسـتحـق أن يصب له الحليب الطري
يلقي الشـباك في البحـر ولا يبرح الشـاطئ
ولا يتعفف عن الاقـتراب من الكـافـر (المحتل)
ويـصـب لـه القـهـوة ويغـسـل ثيـابـه
وبيئة الإبل لا تتورع عن السعي إلى امتلاك الإبل بكل ثمن، وتشيع في أوساط رعاة الإبل أن الإبل تستحق أن يُدفع في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، وحتى النفيس أيضا لحيازة الإبل. وقال شاعر صومالي في إشارة إلى هذا الأمر:
إن النـوق إذا دخـلت حظـيرتـك
لا يضيرها أن تدخلها بالحلال أو بالحرام
وهذا بغض النظر عن كل شيء فإن هذا كاف للدلالة على أهمية الإبل ومكانتها في وجدان الرعاة، سواء جاء بالنهب أو بالملك الحلال؛ فهي عماد الحياة وتستحق التملك كما تستحق الاحتفاظ بها مهما كلف ذلك من ثمن. فالإبل في ثقافة البدوي الصومالي أن تكون أو لا تكون. ولم يجد السياسيون أو المقاتلون أفضل من توظيف مفهوم "الإبل" وتوسيعه في استخدامها للوصول إلى مصالحهم التي يريدون تحقيقيها.