1 ـ وصف القرية:
القرية هي البرّية بجلالها وجمالها، وإشراقها وضيائها، وخضرتها ومائها، ورقة هوائها وزرقة سمائها.
هي صياح الديك ولثغة الشحرور وتغريد الطيور ومأمأة الخروف وثغاء العنزة ومواء القطة ونباح الكلب وخوار البقرة وخرير الساقية وأنين الناي، تتناغم وتنشد في تناسق وانسجام.
هي رائحة الأعشاب والنعناع والبابونج وعبير التفاح والبرتقال.
هي الخبز البيتي والحليب الصافي، والعسل الحر، وزيت الزيتون النقي.
هي ركوب الخيل والحمير، والبكور إلى الطاحونة لطحن القمح والشعير، وحمل الماء من العين والينبوع والغدير.
هي التمسك بالعادات الحميدة التي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا من إغاثة الملهوف واحترام الكبير وإعانة الضعيف ورعاية حقوق الجار، وقد أصبحنا نفتقدها في المدينة، لذلك يسميها بعضهم "أخلاق القرية".
ولا يعرف فضل القرية إلا من عاش في المدينة، في بيوت أرضها وسقوفها وجدرانها وقلبها حجر، لا يدخلها النور والدفء إلا بمقدار، ولا يتجدد هواؤها، ولا يستساغ ماؤها ، ولا ترى في كثير من أنحائها شمسها ونجومها وسماؤها.
كنا نهرب إلى أحضانها هربا من قيود الحضارة الزائفة، لننعم بالشمس والهواء والليل والنجوم والقمر والحرية، فنجد فيها ملاذا من الصخب والضوضاء والقلق والتلوث. تتجاور فيها المخلوقات دون حواجز، فيعيشون معا في هناء وصفاء جنبا إلى جنب: الناس الحيوانات والطيور والنباتات.
هذه هي القرية التي عرفناها في الماضي، فماذا بقي منها الآن؟
أهلها ودعوا القناعة، وفارقوا الوداعة، وبعضهم هجرها إلى المدينة مستبدلين ماديتها بروحانيتهم وقلقها المزمن بطمأنينتهم، وبعضهم مكثوا فيها وتقاعسوا عن خدمتها، وأرادوا أن يجعلوها مدينة مصغرة فاستبدلوا العمائر بالدور وأحالوا ترابها قارا وخضرتها أحجارا وجعلوا بينهم وبين الطبيعة ستارا فتسمم هواؤها وغاض ماؤها.
لقد حوصرت آخر قلاع الطبيعة، وتكاد أن تسقط لولا البقية الباقية من جيوب المقاومة التي تحصنت فيها، وآلت على نفسها أن تحميها، فهل تراها تستطيع؟
وصف قرية بني بوبلان :
ولكن سكان قرية "بني بوبلان" لم ينعموا بهذا السكون والأمان الذي كانت تمثله القرية قديما، بل كانوا مثل سكان كافة القرى الجزائرية التي عاشت تحت وطأة الاستعمار مسلوبي الحرية، يعملون بالسخرة في أرضهم التي اغتصبت منهم وأعطيت للمعمرين وهذا كومندار أحد أبطال ثلاثية "محمد ديب" يحدث "عمر" عن بني بوبلان:
1 ـ القرية المجهولة (محمد ديب):
"قد لا تكون بني بوبلان مكانا رائعا، إن سكان المدن لا يعرفون عنها شيئا، رغم ما اشتهروا به من أنهم علماء بكل شيء. والحق أن علمهم ببني بوبلان أقل من علمهم بما عداها أيضا. في أقصى الشمال، وفي أدنى الشرق، وفي أي مكان من العالم لا يعرف الناس عن بني بوبلان كبير شيء. من الذي يتكلم عن بني بوبلان؟ لا أحد . ذلك أن من يريد أن يتكلم عنها، ينبغي له أن يعرفها وكلما عرفها، كلما تأملها، لاح له أنها مكان يحلو العيش فيه ولا أقول إنه مكان رائع. إن الإنسان يتنسم هنا هواء الجبال، وإذا شعرت هنا بالوحدة، فهي وحدة غير التي تستولي عليك حين تعيش في مدينة كبرى.
هي وحدة أخرى .. وهذه الطريق المحصبة الغبراء التي تملأ البلاد، حقول الكرمة التي تحف بها الأسيجة تمتد أمامك ههنا على مدى البصر، ومن مسافة إلى مسافة يظهر كوخ بائس من أكواخ الفلاحين. هذه الأكواخ كلها متشابهة. يلوح لك فيها شيء من الوحدة، شيء من الحزن يلاحقك بغير انقطاع. إن الفلاحين لا يتركون بني بوبلان أبدا. وإذا تركوها لم يصلحوا بعدها لشيء. في أصواتهم حنين رائع، وتحيتهم تزخر بالحرارة. ولكن الاستعمار يجرح: عيونه خائفة لا سبيل إلى خلاصها من هذا الخوف، وعيون الرجال قاسية لا سبيل إلى خلاصها من هذه القسوة، ذلك أن المستعمر المستوطن يرى أن عمل الفلاح من حقه تماما، بل إنه ليريد أن يكون الناس أنفسهم له. ولكن الفلاح، رغم أنه ملكه اسما، هو في حقيقة الأمر سيد الأرض الخصبة، البهائم والمحاصيل والحياة في كل مكان من إنجابه. الأرض امرأة... سر الإخصاب واحد، في أخاديد الأرض وفي أرحام الأمهات على السواء. والقوة التي تخرج من الأرض أثمارا وسنابل هي بين يدي الفلاح.
" قوي مخيف هو. لا بد له يوما أن يحمي بالسلاح بيته وحقوله".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 184
مساكن الفلاحين:
"ثم إن بني بوبلان ليست بالشيء الذي تسر رؤيته الناظرين، إنك لا ترى هنا إلا أكواخا وخصاصا، وعددا قليلا من بيوت الحجر يسكنها المزارعون ولا تكاد تختلف عن مساكن الفلاحين، إن الناس لا يحرصون أن يتكلموا عن ماضيهم. في هذا المكان كانت تقوم في الماضي مدينة "المنصورة" التي ما نزال نرى جدران سورها، وما نزال نرى برجها المغربي. صحيح أن تلمسان مدينة قديمة: فالبيوت فيها هرمة يرجع عهدها إلى مئات السنين. ولكن الناس أيضا هرمون في تلمسان. الوجوه في بني بوبلان بسيطة كل البساطة مألوفة كل الإلفة. الفلاحون يمضون إلى أعمالهم دون أن يطلب منهم ذلك، فلهذا خلقوا، وهم في أذواقهم وميولهم أعفاء قانعون معتدلون، ولكن حذار أن تسألهم أن يحنوا ظهرهم صاغرين".
القرية هي البرّية بجلالها وجمالها، وإشراقها وضيائها، وخضرتها ومائها، ورقة هوائها وزرقة سمائها.
هي صياح الديك ولثغة الشحرور وتغريد الطيور ومأمأة الخروف وثغاء العنزة ومواء القطة ونباح الكلب وخوار البقرة وخرير الساقية وأنين الناي، تتناغم وتنشد في تناسق وانسجام.
هي رائحة الأعشاب والنعناع والبابونج وعبير التفاح والبرتقال.
هي الخبز البيتي والحليب الصافي، والعسل الحر، وزيت الزيتون النقي.
هي ركوب الخيل والحمير، والبكور إلى الطاحونة لطحن القمح والشعير، وحمل الماء من العين والينبوع والغدير.
هي التمسك بالعادات الحميدة التي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا من إغاثة الملهوف واحترام الكبير وإعانة الضعيف ورعاية حقوق الجار، وقد أصبحنا نفتقدها في المدينة، لذلك يسميها بعضهم "أخلاق القرية".
ولا يعرف فضل القرية إلا من عاش في المدينة، في بيوت أرضها وسقوفها وجدرانها وقلبها حجر، لا يدخلها النور والدفء إلا بمقدار، ولا يتجدد هواؤها، ولا يستساغ ماؤها ، ولا ترى في كثير من أنحائها شمسها ونجومها وسماؤها.
كنا نهرب إلى أحضانها هربا من قيود الحضارة الزائفة، لننعم بالشمس والهواء والليل والنجوم والقمر والحرية، فنجد فيها ملاذا من الصخب والضوضاء والقلق والتلوث. تتجاور فيها المخلوقات دون حواجز، فيعيشون معا في هناء وصفاء جنبا إلى جنب: الناس الحيوانات والطيور والنباتات.
هذه هي القرية التي عرفناها في الماضي، فماذا بقي منها الآن؟
أهلها ودعوا القناعة، وفارقوا الوداعة، وبعضهم هجرها إلى المدينة مستبدلين ماديتها بروحانيتهم وقلقها المزمن بطمأنينتهم، وبعضهم مكثوا فيها وتقاعسوا عن خدمتها، وأرادوا أن يجعلوها مدينة مصغرة فاستبدلوا العمائر بالدور وأحالوا ترابها قارا وخضرتها أحجارا وجعلوا بينهم وبين الطبيعة ستارا فتسمم هواؤها وغاض ماؤها.
لقد حوصرت آخر قلاع الطبيعة، وتكاد أن تسقط لولا البقية الباقية من جيوب المقاومة التي تحصنت فيها، وآلت على نفسها أن تحميها، فهل تراها تستطيع؟
وصف قرية بني بوبلان :
ولكن سكان قرية "بني بوبلان" لم ينعموا بهذا السكون والأمان الذي كانت تمثله القرية قديما، بل كانوا مثل سكان كافة القرى الجزائرية التي عاشت تحت وطأة الاستعمار مسلوبي الحرية، يعملون بالسخرة في أرضهم التي اغتصبت منهم وأعطيت للمعمرين وهذا كومندار أحد أبطال ثلاثية "محمد ديب" يحدث "عمر" عن بني بوبلان:
1 ـ القرية المجهولة (محمد ديب):
"قد لا تكون بني بوبلان مكانا رائعا، إن سكان المدن لا يعرفون عنها شيئا، رغم ما اشتهروا به من أنهم علماء بكل شيء. والحق أن علمهم ببني بوبلان أقل من علمهم بما عداها أيضا. في أقصى الشمال، وفي أدنى الشرق، وفي أي مكان من العالم لا يعرف الناس عن بني بوبلان كبير شيء. من الذي يتكلم عن بني بوبلان؟ لا أحد . ذلك أن من يريد أن يتكلم عنها، ينبغي له أن يعرفها وكلما عرفها، كلما تأملها، لاح له أنها مكان يحلو العيش فيه ولا أقول إنه مكان رائع. إن الإنسان يتنسم هنا هواء الجبال، وإذا شعرت هنا بالوحدة، فهي وحدة غير التي تستولي عليك حين تعيش في مدينة كبرى.
هي وحدة أخرى .. وهذه الطريق المحصبة الغبراء التي تملأ البلاد، حقول الكرمة التي تحف بها الأسيجة تمتد أمامك ههنا على مدى البصر، ومن مسافة إلى مسافة يظهر كوخ بائس من أكواخ الفلاحين. هذه الأكواخ كلها متشابهة. يلوح لك فيها شيء من الوحدة، شيء من الحزن يلاحقك بغير انقطاع. إن الفلاحين لا يتركون بني بوبلان أبدا. وإذا تركوها لم يصلحوا بعدها لشيء. في أصواتهم حنين رائع، وتحيتهم تزخر بالحرارة. ولكن الاستعمار يجرح: عيونه خائفة لا سبيل إلى خلاصها من هذا الخوف، وعيون الرجال قاسية لا سبيل إلى خلاصها من هذه القسوة، ذلك أن المستعمر المستوطن يرى أن عمل الفلاح من حقه تماما، بل إنه ليريد أن يكون الناس أنفسهم له. ولكن الفلاح، رغم أنه ملكه اسما، هو في حقيقة الأمر سيد الأرض الخصبة، البهائم والمحاصيل والحياة في كل مكان من إنجابه. الأرض امرأة... سر الإخصاب واحد، في أخاديد الأرض وفي أرحام الأمهات على السواء. والقوة التي تخرج من الأرض أثمارا وسنابل هي بين يدي الفلاح.
" قوي مخيف هو. لا بد له يوما أن يحمي بالسلاح بيته وحقوله".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 184
مساكن الفلاحين:
"ثم إن بني بوبلان ليست بالشيء الذي تسر رؤيته الناظرين، إنك لا ترى هنا إلا أكواخا وخصاصا، وعددا قليلا من بيوت الحجر يسكنها المزارعون ولا تكاد تختلف عن مساكن الفلاحين، إن الناس لا يحرصون أن يتكلموا عن ماضيهم. في هذا المكان كانت تقوم في الماضي مدينة "المنصورة" التي ما نزال نرى جدران سورها، وما نزال نرى برجها المغربي. صحيح أن تلمسان مدينة قديمة: فالبيوت فيها هرمة يرجع عهدها إلى مئات السنين. ولكن الناس أيضا هرمون في تلمسان. الوجوه في بني بوبلان بسيطة كل البساطة مألوفة كل الإلفة. الفلاحون يمضون إلى أعمالهم دون أن يطلب منهم ذلك، فلهذا خلقوا، وهم في أذواقهم وميولهم أعفاء قانعون معتدلون، ولكن حذار أن تسألهم أن يحنوا ظهرهم صاغرين".